هناك علاقة طردية بين تصور بعينه للدين وبين حجم القوة التي يوفرها للقائمين علي توظيفه سياسياً؛ وأعني أنه كلما كان الدين حرفياً وقطعياً يكون مقدار القوة التي يقدمها لهؤلاء الساعين إلي التخفي وراءه أكبر- بما لا يقاس- من تلك التي يوفرها لهم حين يكون موضوعاً لتفكير مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن قطعية الدين وحرفيته تكون هي الأكثر مثالية في إخضاع الجمهور وقهره؛ وأعني من حيث لا يكون متاحاً له، في إطارها، إلا محض التسليم والامتثال من دون جدل أو سؤال. وإذ يقوم دعاة الإسلام السياسي بتثبيت هذا التصور القطعي للدين علي أحد المفاهيم الشائعة المستقرة في وعي الجمهور؛ وهو مفهوم القطعي الثبوت والدلالة، فإنه يلزم التنويه بما يقوم عليه هذا المفهوم من مراوغة تسوية قطعية الثبوت مع قطعية الدلالة، وذلك فيما ينتمي الثبوت إلي مجال التاريخ الذي يغاير بالكلية مجال المعني الذي تنتمي إليه الدلالة. وبالطبع فإنه لا يمكن التسوية أبداً بين ما ينتمي إلي مجال الثبوت التاريخي، وبين ما ينتمي إلي مجال المعني الدلالي؛ وبمعني أنه في حين أن أحدا لا يجادل في يقينية ثبوت القرآن؛ وبما يعنيه ذلك من إمكان- بل وجوب- التأكيد علي قطعية ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه، لأن ذلك يعني وجوب القول بأحادية الدلالة والمعني؛ وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن.
فقد أدرك الرجل (يقصد نصر حامد أبو زيد رحمة الله عليه) أن القرآن قد حُوصر بشبكة من المفاهيم والتصورات التى وجَّهت عمليات فهمه وقولبتها، ووضعت لها حدوداً وآفاقاً لا تخرج عنها، واكتسبت على مدى القرون - ورغم مصدرها البشري - قداسة توازى تلك التى للقرآن ذى المصدر الإلهي. ولسوء الحظ، فإن هذا الحصار قد أضرَّ بالقرآن وبالمسلمين فى آنٍ معاً. فقد أعجز القرآن عن أن يكون مصدراً للإلهام فى عالم متغير، وأجبر المسلمين، إبتداءً من اضطرارهم للانحباس ضمن تحديدات هذه المفاهيم الراسخة، على التعيُّش عالة على غيرهم من صُنَّاع العصر والفاعلين فيه. ومن هنا ما بدا من ضرورة الانعتاق من أسر تلك التحديدات، واستعادة القرآن الحى السابق عليها، والذى كان - وللمفارقة - قرآن النبى وصحابته الأكرمين.